- الفصل السادس

152 11 0
                                    

" هناك جزء متوارً دائمًا من الحقيقة ، يكمن في قسم لا يُري بالعين المُجردة ، بـل يُري تحت ميكروسكوب الذكاء ، مجهر المعرفة ، ومُكبر سرعة البديهة "

| بقلمي |


انتقلت نظراته بينهم كطفل مذنب تسبب في تسوس أسنانه من كثرة أكـله للحلوى ...
الهدوء سائد بشكل تام في المكان ، حتي كسرته ليلي زوجة سُفيان ، وضعت إحدى الحقائب التي أتت بها علي قدمي كادر علي الفراش ، فتأوه من ثِقلها ، فتحت الحقائب لِتخرج إناء من الفُخار به ملفوف ورق العنب وقطع من الدجاج ...



أمسكت ذقنه تحرك وجهه يمينًا ويسارًا ثم أردفت قائلة باستنكار :


= شكلك خاسس يا بني ...

ابتسم كادر ببهوت وهو يراوغها قائلًا :

_ خسيت فـ يومين ؟ ما أنا كنت عندك من يومين ...


رمقـته في هدوء وهي تردف بمغزي :

= وياريتك فضلت عندي ، ما كانش جرا الي جرا ...


تنـهد ناظرًا لها دون رد ، فنظرت له قائلة :

= يـلا كُل ...

تراجع وهو لا يشعر بشهية مفتوحة للأكل قائلًا :

_ لا اعفيني معلـ ....


ضاعت بقية كلمته عندما وضعت إصبعًا من المحشو في ثغره وهي تنظر له بتحذير ، ابتلع ما في فمه ، وبدأ في التحدث مرة أُخرى ، فوضعت أخر في فمه ، وأخر تلاه أخر ...



وهو ينظر لها عاجزًا ، غير قادر علي المُقاومة ، يشعر أن روحه مُتعبة جدًا ....

غير قادر علي التوضيح ،و غير قادر علي تحريك جسده حتي ...

لا يستطيع التبرير لأحد عن فِعـلته ، إذا كان لا يستطيع التبرير لنفسه من الأساس ...

روحـه ضائعة في متاهات ألمه ...

خذلان تلاه آخر ، وقد تحمل ذنبهم جميعًا ...

أثقلت كل تلك الذنوب روحـه أكثر ، بات مُحملًا بالأعباء ...


وفـي لحظة ... شعر أن لذلك المرض خلاص ...

أراد أن يشعر بخفة أعبائه ولو لمرة واحدة ...

وفي لحظة تهور واحدة ارتكب ذلك الجُرم ، ليضاف ذنبًا جديدًا لأعبائه ...

تكلمت ليلي أخيرًا قائلة بهدوء متفرسة في ملامح وجهه :

= أنت مكنتش كده ...


_ صدقيني أنا نسيـت كل حاجة عـن نفسي القديمة ...


= أنت بس فاكر كده ...


_ لا مش فاكر ! أنا ناسي كل حاجة عني ، وكأني بقيت إنسان تاني ! ده مش أنـا !
أنا مدرك كده ، بس مش عارف أرجع تاني لنفسي القديمة ...


= قاوم يا كادر ، من امتي وأنت بالضعف ده !


_ من ساعة ما الكل بدأ ييجي عليا !


= مين الي جه عليك يا بني ، عامل فنفسك كده عشان بنت متساويش تلت قروش باعتك عشان شوية شهرة ؟!


_ كملي ... وعشان عيلتي الي كانت عارفة أني بحبها ، وعلي الرغم من كده جوزتها لأخويا ...
وعشان أختي ماتت وأنا متخاصم معاها ...
وعشان بقيت حاسس أني عبء علي نفسي وعلي الي حواليا ...
أنا ...
أنا الي المفروض أحمي الكُل وأخدم الكُل ، وعندي قسَم علي ده ، بقيت عاجز حتي أني أساعد نفسي وأفهمها ...



= متلومش نفسك يا بني ، صحيح أني عايزة اضربك بالي فرجلي ، بس النتيجة واحدة ، الي حصل حصل ، فهبدأ أتعلم منه ، مش هسيب مجال لأي خطأ تاني ...



_ أنا ...


قاطعته قائلة بهدوء :


= أنت إنسان ، في إمكانية لحدوث أغلاط بتصرفاتك ، عملت حاجة غلط ، اتعلم منها ، لوم نفسك زيادة عن اللزوم مش هيقدمك ، لوم نفسك زيادة هيخليك مش مِركِز ، ولما تبقا مش مركز هتغلط تاني وتالت وعاشر ، وده الي حصل ...


نظرت خلال عينيه قائلة بهدوء :

= سـامح نفسك يا كادر ، قلل ثقل همومك يا بني ، الحياة لسه قدامك ، ياما هتزعل وهتعيط ، ياما قلبك هينكسر ، بس الهدف من ده كُله أنك تعرف أزاي تتعامل مع جرحك ، ازاي تقوم ورا كل قلم بعزيمة وروح أقوي ...


الدموع لها حُرمة كحرمة المنازل ، وكان قد لديه مبدأ ثابت لا يتزلزل عن استحالة بكائه أمام أحد ...
ولـكـن ...

لما يشعر الآن بدموع عينيه تنساب بقهر علي خديه وكأنها تطهر جروحه ؟ ، لما يشعر بشفتيه ترتعشان وقلبه ينبض في وجع ؟

لما يشعر بيديه ترتجف وجسده ينحني ليتكور بوضعية الجنين ؟


استقام عُقاب مُتجهًا نحو أخوه وقد بان علي وجهه التأثر الشديد ، ثم انحني ليجلس بجانب كادر يحتضنه وهو يشد علي ظهره ، يتمسك به ، يُخرج تنهيدة كالتي أخرجها عندما رأي كادر يخرج سالمًا من البحر ...

فأخيه هـنا ...
لم يمت ، ولم يتركه كما فعل كرم ، أخاه الأكبر...
مازال قلبه ينبض ، ومازال يتنفس ...
أخوه ...هنا ...

أغمض عينيه يزفر براحة عدة مرات ..
فسمع صوت كادر يأتي متذمرًا وهو يُجفف دموعه :

_ متفش في قفايا ياض !


ضحك عُقاب وهو يقاوم دموعه ، فشعر بكادر يُحرك وجهه في قميصه رأسيًا ...، فانتفض متقززًا قائلًا بنصف عين :


= أنت بتمسح وشك فـ قميصي يا معفن ...


_ أنت الي تفيت فـ قفايا الأول ..


= محصلش ...


_ لا حصل ...

تبادلا النظر لبرهة ، ثم شد كل منها يد الآخر يبدأن عراكًا وهميًا ، بعثر كادر شعر عُقاب ، فجن جنونه قائلًا :

= كـله إلا شعري ، شـعري ..!


أمسك عُقاب بخدي كادر يُحركها يمينًا ويسارًا وهو يشد عليها ، فصاح كادر وهو مازال ممسكًا بشعر عُقاب بجنون مماثل :


_ سيب وشي !


= سيب شعري الأول ..


_ أنت الأول ...


= خـلاص نسيب مع بعض ...


_ أوك ، واحـد ، تلاتة !

لم يترك أحداهما الأخر ، فتبادلًا النظر لوهلـة ثم بدأ أحدهما بالعد مرة أخري ...

وتلك المرة فلت كل منهما الأخر ، اعتدلا في جلستهما ، وتلاقت أنظارهما فانفجرا ضاحكين ...

خارج الغُـرفة .......


أغمضت عينيها تنظر لزوجها يعقوب بارتياح ، وهي تسمع ضحكات ولدها الحبيب التي تتعالي ، تغلغلت ضحكاته في مسام عقلها ، فانتعش قلبها ، وأرسلت رسائلًا لثغرها الذي انفرج عن ابتسامة واسعة ....

........................

" لـتتخلـص من خوفك ، افعل أكـثر ما يثير رعبـك "

| مـارك توين |

( اوهمي نفـسك بالأمان وقت ما تحسي أنك خلاص جبت أخرك ، فكري بأجمل ذكرياتك ، بأروع شعور حسيتي بيه فـ حياتكِ )

مُتبعة نصائح إحدي الطبيبات النفسية علي الانترنت ، استقامت تنظر إلي شريط أسود قابع بيديها بتردد ، أخذت نفسًا عميقًا وهي تهمس بارتجـاف :


_ مش هبقي ضـعيفة تاني ، مش هخـاف !


وضعت الشريط علي عينيها بعدما أبعدت كل مقتنيات حُجرتها البسيطة بعيدًا حتي لا تتأذي ، ربطت الشريط وهي مغمضة عينيها من الخوف ، ثم في لحظة شجاعة نادرة ، فتحت عينيها فطالعـها الظلام من كل جانب ...

ازدادت سُرعة أنفاسها ، وارتجفت يداها وهي تشعر بالرعب ، بدأت بالتعرّق وشفتيها ترتجفان ...

ظـلام يحاوطها من كل جانب ....
وضحكات زوجة والدها تتردد في أذنها بتشفي ....


ظلام يحاوطها من كل جانب ...
وصوت حزام والدها يصدر صوتًا كالسوط ، فتنتفض باكية ...

ظلام يحاوطها من كل جانب ....
وذكري وفاة أمها تلوح في الأفق ، معلنة أنها قد بقيت وحيدة بعد الآن ....


ظلام يحاوطها من كل جانب ...
وأيام بقت دون طعام يشبع جوعها تظهر أمام عينيها ...

نزلت دموعها ، وامتدت يدها بسرعة كي تفك الشريط ، ولكنها توقفت لثانية ...


ظلام يحاوطها من كل جانب ...
وقلادة والدتها تضئ طريقها كمرشد صالح في كل خطواتها ....


ظلام يحاوطها من كل جانب ...
وعشرة سنوات قضتها مع والدتها ، تلوح في الأفق لتذكرها بأجمل أيام حياتها ...


ظلام يحاوطها من كل جانب ...
وذكري مساعدة أحمد ... وعُقاب .... بيجاد ... وريحان تظهر أمام عينها كتميمة سحرية تعدها بالأمـان ...

هدأت أنفاسها رويدًا ، وسكنت إلي حد ما ...
لكنها لم تعد تحتمل ...


نزعت الشريط بسرعة ، لتأخذ نفسًا عميقًا مرتاحًا ...وتعالي شهقات بكائها بعصبية ...

ارتمت علي سريرها تبكي بقهر مُردفة بتفكير :

_ متي ستشفي نهائيًا ... ؟

..............................

تحت ظِـلال الهوي Место, где живут истории. Откройте их для себя