- الفصل السابع عشر

107 15 0
                                    

" من اعتاد الأذي ، ظن أن الطمأنينة فخ ..."
| منقول |

جالسة في سريرها تقرأ كتابًا ، ولكنها ليست مُندمجة تمامًا ، فـ الأمور في المنزل ، ليست مُستتبة بشكل تام ...
فـ منذ معرفة هند حقيقة خروجها ....
ودفاعها عن نفسها ضد نادر ....
وصراخها بـ كوثر ، وهي تشعر أن الأذي سـ يُطالها من مكان ما ، لأنها إذا كانت تعرفهم تمام المعرفة ، تعلم تمامًا أن زوجة أبيها لن تسكت علي ذاك ....

لم تُكمل جُملتها إذ طُرق الباب ، و في عقلها ، استشعرت نوع تلك الطرقة تمامًا ......
فـ أحمد يطرق ثلاث طرقات مُتتالية ....
ونادر وكوثر يقتحمان الغرفة علي الفور دون طرق الباب ...
أما هند فـ تكون دومًا طرقتها كـ تلك ....
مُترددة .... خائفة .... وتُريد التراجع ...
لكنها بعد أن سمحت للطارق بالدخول ، اتسعت عيناها دهشة عندما ناظرت والدها يقف أمامها ، ينفي استنتاجاتها التحليلية
...
فـ نزلت عن الفراش سريعًا وهي تبلع ريقها بـ توتر ....
هي لم تفعل شيئًا ...
بخلاف ضربها لـ نادر ، و صراخها بـ كوثر ، هي لم تفعل شيئًا ....

اقترب منها والدها يناظرها بـ غرابة ، بينما عيناه تلمعان ....
بينما تتراجع هي وقد سيطر عليها خوفها ثانية ..
حتي اصطدمت بالحائط ، فـ زاد خوفها وقد أدركت أن لا مناص من والدها ....

فـ فتحت ثغرها تُدافع عن نفسها :
_ بُص ، والله هـ ...

= تعرفي أنك شبه مامتك أوي ....

خرجت جملته طفولية مُختنقة ، وهو يناظر عياناها اللتان اتسعتا في دهشة ، ما لبثت أن تحولت إلي رعب ما أن وجدت كفه الذي رفعه وهو ......
لم تنتظر لـ تري ماذا كان سـ يفعل ، بل أشاحت بـ وجهها سريعًا وهي ترفع ذراعيها كي تحمي وجهها ، كـ حركة اعتادت فعلها عندما يضربها ....

لكن كفه لم تضربها ، بل توقفت في الهواء تناظر فعلها في صدمة ، ثم اقترب بـ كفه ، يحط علي جانب وجهها بـ رفق مُشاهدًا اتساع عينيها في صدمة ...

فغرت ثغرها ، وهي تنظر له بـ بلاهة ، فـ ابتسم ابتسامة مُختنقة ، وهو يُكمل جملة لم يبدأها لسانه :
_ شبهها أوي ، شكلًا وروحًا ....

استمعت له في دهشة ، ولكنها كانت دهشة لذيذة ، فـ لأول مرة تسمع أحد في ذاك البيت يجلب سيرة أمها بالخير ...
فـ كشف ثغرها عن ابتسامة غير مُصدمة وهي تقول :
= بجد ؟

لم يرد عليها ، ولكنه تأمل ابتسامتها ، وهو يكتشف اكتشافًا صادمًا له ، فـ منذ موت شمس ، وزواجه بـ كوثر ، لم يسمع لابنته تلك صوت ضحكة واحدة ، لا رأي لها ابتسامة ، ولا عرف عنها خبرًا ....
لم يتقرب منها لـ يشد أزرها في طفولتها بـ فقدانها لـ والدتها ، بل تركها .... ترك أمانة شمس ...
تركها لـ كوثر ، التي جاهدت لـ تحويلها لـ دمية بلا حياة ...
لكنها لم تنجح ...
جزء خفيًا بداخل سماء زرعته بداخلها شمس ، ظل يقاوم كي يبقي كما هو ....
ومازال يقاوم ....
لأنها يومًا عن يوم ، تصبح شبيهه بـ والدتها أكثر ....
لـ توجع قلبه وتذكره ، عما فعله بـ والدتها ....
وعلي تلك الفكرة ، تراجع محمد بـ ظهره وهو يُناظر وجه ابنته التي تابعته بـ عينيها بـ تساؤل ، ثم خرج من الغرفة بـ هدوء ، ثم أغلق الباب ....
تاركًا سماء ، تشق وجهها ، بسمة تحاول أن تحيا ....

...................................................................................

" هناك نجاح واحد في اعتقادي ، وهو أن تتمكن من قضاء حياتك بـ طريقتك الخاصة "
| كريستوفر مورلـي |

في العادة ، نحن كـ بشر تحكمنا أشياء عدة ....
أشياء مُختلفة ، تجمعنا وتُفرقنا ...
منّا من يحكمه العادات ، ومنّا من يحكمه الدين ...
منّا من يحكمه مشاعره ، ومنا من يحكمه كلام الناس وآرائهم ...
تلك الطائفة الأخيرة ، كانت هي من كارهيها دومًا ، فـ كان لديها مبدأ خاص يخص ذاك الأمر ...
وذلك المبدأ كان من أول المبادئ الذي وضعتها لـ نفسها كـ مُراهقة مُنطوية ...
ولكنها كبرت لتصطدم بالواقع ...
ذلك الواقع المرير ، الذي حكم عليها أن تكون طفلة منبوذة من صغرها ....
ذلك الواقع الذي أطاح بـ مبادئها جانبًا دون اكتراث ، فـ قد وجدت نفسها مُلزمة بـ مستوي معين تظهر فيه مع جدتها ...
مستوي اجتماعي .... مستوي ثقافي .... ومستوي أسلوبي ....
ثلاثة أشياء لعينة ، وضعوها قسرًا أمام مرآة لا تعلم انعكاسها ....
لأنها ليست هي ...
ليست هي من أولئك الذين يهوون الاستعراض والفخفخة ...
هي أبسط من ذلك ...

ولأنها كانت تتعامل مع مجتمع يحارب البساطة ، فقد سحقوا بسطاتها تلك تحت مُتطلباتهم وتقييماتهم ....
فـ تدريجيًا باتت تنعزل عن تلك المجالس ، باتت تزهد في الخروج ، تزهد في الملابس ....
زهدت في كل شيء تقريبًا ...
وبقي شغفها لهواياتها .... والأكل ...

لكن جدتها رفضت ذلك رفضًا قاطعًا ، وأرادت أن تُسيرها علي نظام تربية مُعين ، رفضته هي تمامًا وتمردت عليه ...
ولكن عاد خوفها من النبذ لـ يطفو علي السطح ، فـ مع كل شجار لها مع جدتها ، كانت نبضات قلبها ترتفع خوفًا من أن تطردها جدتها مثلًا ، أو تبعدها عنها ....

كان مؤلمًا عليها ، مُعاكسًا لـ طبيعتها المُتمردة ، أن تنسحب من كل نقاش لنفس السبب ، وهو خوفها من أن تسأم جدتها من تربيتها وترسلها بعيدًا ، ولكنها الآن وفي تلك اللحظة تحديدًا ...
أدركت أنها لم تضع احتمالًا أن ترحل جدتها عنها ، رغمًا عنها ، لـ سبب آخر ... مُختلف ... وقاهر ...
وتلك المرة لا تستطيع أن تعيدها بـ التزام كلامها ومُراضاتها ، بل سترحل هي إلي مكان ، لن تستطيع الرجوع منه أبدًا ...
كما رحل والدها وفعل قبله الكثيرين ....

ظلت ماكثة أمام غرفة العمليات ، مخذولة الكتفين ، ميتة الروح ، بينما عيناها ولأول مرة منذ فترة ، ينطفئ التماعها الرمادي الحماسي ....
لم تتحرك من مكانها منذ أن أخذوا جدتها لغرفة العمليات ، ظلت متجمدة مكانها ، تنتظر وتنتظر ....

كما انتظرت أن تعود والدتها يومًا نادمة ....
كما انتظرت كل يوم في مدرستها أن ينتهي الدوام ، لـ تدفن رأسها تحت وسادتها كي تُصمت سخرية أصدقائها منها .....

كما أن انتظرت أن تجد عوضًا يتمثل في رجل لا يرحل أبدًا ....
ويا ليته رحل ، أهون مئات المرات ، من أن تكتشف أنها كانت تحب شخصًا يجيد ارتداء الأقنعة ...

في حياتها القصيرة تلك ، انتظرت الكثير والكثير ، لعلها تجد سعادتها يومًا بعد صبرها ...
و سـ تتابع صبرها ، سـ تظل تكافح في تلك الحياة ، كي لا ينفذ صبرها يومًا ....

كان كادر يراقبها عن كثب ، وهو يدرك أنها تتألم ألمًا خفيًا يقرص روحها ، لكنه رآه ...
ذاقه من قبلها مرات عدة ...ويعرفه ...
وذائق الشيء ... يفهمه ....ويُقدره إذا رآه في أحد أخر ....

بينما تجلس دلال علي إحدي المقاعد ، وعينيها شاخصة في الأرض ، مصدومة ومذعورة .....
السنون تمر ، والبشر يتقدمون في السن ....
لكنها لم تحسب حساب أن ترحل والدتها قبلها أبدًا ....
والدتها ؟ هل قالت والدتها ؟
كم سنة عاشت معها ؟ عشرون ؟ خمس وعشرون ؟
وبقية حياتها ؟
تركتها وحيدة لـ تتزوج من شخص متزوج سرًا ، بدون علم أحد ، وكأن لا كبير لها ....
تاركة ابنتها الصغيرة مع والدتها ، حتي تُربيها ....
فقد كان شرطها علي عمرو في البداية أن يبتعد عن زوجته وأطفاله ، وبالمقابل طلب منها الابتعاد عن ابنتها ...
منتهي السخف أليس كذلك ؟
وكأن الاثنان لم ينجبا وليس في أعناقهما مسئولية أطفالهم إلي يوم الدين ...
لكنهما كانا طائشين ، متهورين ....

رفعت دلال نظرها لـ تبصر ابنتها ، تلك التي لم تعش معها سنة حتي علي الأقل ....
تفحصتها دلال بـ نظرها بـ شرود ، وهي تُدرك للمرة الأولي أن ماريتا لا تحمل منها خصلة واحدة ، أو حتي شبهًا وحيدًا ، بل أن الشيء الوحيد الذي أخذته منها هو مُجرد اسم كُتب في خانة الأم في شهادة الميلاد ....

لقد حصلت ماريتا علي عيني والدها بـ لونهما واتساعهما ، وخُصلاته الفحمية ، و بروز عظام وجهها ، كما حصلت علي روحه وعفويته ....
بينما منها ؟
لم تحمل تفصيلًا واحدًا ....

أجفلت دلال فجأة عندما استدارت ماريتا كـ لبؤة غاضبة وهي تتجه لها بـ عينان يخرج منهما الشرر ، وما أن وصلت لها حتي أمسكت ذراعها بـ قوة وهي تقول لها :
_ عملتِ فيها ايه ؟ كانت كويسة وقاعدة معانا بتضحك ! هـا ؟ ولا دي لعنتك الي لازم تحطيها ؟ أنك تبوظي كل حاجة و...

قاطع كلامها كادر فجأة ، الذي تدخل بـ حزم وهو يفصل يد والدتها عن يدها ويقول بـ هدوء :
_ ماريتا ، اهدي وسيبي مامتك ....

استدارت له ماريتا صارخة فيه :
= مامة مين ؟ دي أم دي ؟ دي مش أم ! أنت عارف الست دي دمرت حياتي ازاي ؟ متعرفش !

ثم دفعته في صدره وهي تكمل صراخها :
= يبقي متدخلش !

رفعت إصبعها تشير لوالدتها التي ناظرتها بصدمة وأكملت :
= حرمتني أنا ونينة منها من وأنا صغيرة ، وراحت اتجوزت واحد وعاشت معاه ، وخلفت بدالي وكأنها كانت مش عايزاني من الأول ! بدلت بنتها بحد تاني حبته أكتر ...

تابعت وهي تنظر له مُكملة :
= خلتني تايهة في حياتي ديمًا وأنا بسأل عن السبب الي سابتني عشانه ، هل كان العيب فيّا ؟ أنا عملتلها ايه ؟
خلتني أغير ديمًا من أي حد ماشي مع مامته وفرحان ، خلتني طفلة عدوانية ومكبوتة ، دوقتني يعني ايه حرمان ونقص وأنا لسه مكملتش سنين معدودة علي الدنيا !

ثم تابعت وهي تشير له بـ تهديد :
= عشان كده إياك تقولي أنها مامتك تاني ! عشان أنا مليش أم ، سامع ؟!

انتهت ما أرادت توصيله إليه ، ثم التفتت إلي دلال قائلة :
= عملتي فيها ايه خلاها تنسي تاخد دواها ؟ قولتيلها ايه ؟

ظلت دلال صامتة ، فـ تهيجت نيران ماريتا أكثر فـ أكثر وهي تقول دافعة إياها :
= ما تردي !

_ ماريتا !

تدخل كادر ماسكًا ذراعي ماريتا وهو يقول لها بـ هدوء :
= الكلام ده مينفعش ، لا أنك تمدي ايدك علي والدتك ، ولا أنك تصرخي عليها ، ولا هو وقته ومكانه ، خلينا نستني الدكتور الي هيطلع من عمليات جدتك هيقول ايه ، فـ اهدي ...

تفاقم غضبها من برودة ، فـ انفعلت عليها قائلة :
_ متقوليش اهدي ... متقولش ...!

مع كلمتها الأخيرة كانت تدفعه وهي تستدير إلي والدتها ثانية ، ولكنه أمسكها مرة أخري وهو يحذرها :
= ماريتا ! كفايا !

اشتعلت عيناها وهي تدفعه مرة بعد مرة قائلة :
= ابعد كده ، ومتقولش كفايا ، ابعد !

راقبت والدتها ما يدور وهي تستوعب إلي أي مدي أذت تلك العائلة جدًا ...
تلك العائلة التي لم تكون جزءًا فيها ولن تكون أبدًا ...
فـ انسحبت مُسرعة مُتجهة إلي مقهى المشفى ، و قد آثرت الابتعاد حتي تهدأ ماريتا ....
ولكن ماريتا رأتها فـ صاحت بها قائلة وهي تدفع كادر الذي يعترض طريقها :

= رايحة فين ؟ تعالي ! أنا لسه ماحسبتكيش !

ولكن كادر قام بـ تكبيلها مرة أخري وهو يشير لـ دلال أن تُكمل سيرها ، فـ ابتعدت دلال مُسرعة ، بينما ماريتا مازالت تحارب أن تتحرر من كادر وهي تدفعه وتصيح به ...

كان يعلم أنها تتألم ، وأن هناك دومًا وراء برودها ذاك كُتل مُتفحمة من الألم و الغضب ، وكان يتفهم ذلك منها ....
لأنه كان يشعر بـ نفس الشعور في الآونة الأخيرة ....
كان ؟

ولذا ، كان يعلم أن وراء عصبيتها تلك ، قلب صارخ يموت خوفًا علي جدتها ....
ولكنها لم تتعلم أن تُري ضعفها لأحد ...
فـ لن تبكي كـ بقية الفتيات الرقيقات ، ولن تنصدم وتصمت كـ العاقلات ...

لكنها سـ تصرخ كـ المجانين ، و سـ تخرج ألمها في صورة أفعال غاضبة ، ولذا ، كان متفهمًا جدًا للحالة التي تمر بها وهي تصارعه كـ أنثي الثور الغاضبة وتدفعه بعيدًا ...
ولكن مهما بلغت قوتها ، فـ لن تُقارن بـ قوته ....
وهكذا ، ظلت تحاول دفعه عنها ، ولكنه لم يتحرك ...
بل مال عليها يهمس :

_ هتتعبي كده يا ماريتا ، اهدي يا بابا ، عشان جدتك أكيد محتجالك ....

حدث اختلاج في عينيها ما أن ذكر جدتها ، فـ أدرك سلامة نظريته ، لكنه لم يتوقع منها خطوتها القادمة ......
خطوة مؤلمة وصادمة ....

نعم عزيزي القارئ ، ضربته تحت الحزام بركبتها ...
فـ تركها وهو ينحني مُطلقًا صيحة ألم عالية ، وهو يصيح بـ صدمة :

= بتعملي ايه يا مجنونة ؟

ثارت عليه وهي تقول بـ غضب :
_ أيوة مجنونة عندك مانع ؟ ، المرة الجاية الي هتكتفني فيها كده هزعلك مني ، سامع ؟

ناظرها بـ نصف عين ، وهو منحني يضع يده علي ركبته لاهثًا ، ثم من حيث اللا مكان ، شقت وجهه ابتسامة رغمًا عنه وهو يضرب كفًا علي كف ، هامسًا بينه وبين نفسه :

= حقيقي ، أنت مش معقولة !!

سمعت همسه ، ولكن لم تسمع بـ مكنونه ، فـ مالت وهي تضع يدها بجانب أذنها قائلة :

_ قلت ايه ؟ مسمعتش ! وبعدين أنت بتضحك يا عديم الدم ؟

لمعت عيناه في خطر وهو يقول لها بـ تحذير :
= ماريتا ! اتهدي !

_ وأنا هخاف منك ؟

نظر هو من فوق علي إصبعها التي رفعته بـ وجهه قائلًا :
= شيلي صباعك ...

_ وإن مشيلتوش ؟

= هيحصل كده ...

رفع يده وهو يُزيح إصبعها من وجهه ، فـ فاجأته بـ إمساك أصابعه بـ تكنيك معين وهي تلوي ذراعه للخلف ...
فـ اتسعت عيناه صدمة وألم ، ولكنه ذم شفتيه في وعيد ، وهو علي الفور يجلب المضاد لتلك الحركة بـ مهارة وليونة ...

وكأن كلاهما نسي أنهما في مشفى ، وهناك مرضى ، من ضمنهم جدتها !

باتت تحت قبضته الآن ، ظهرها إلي صدره ، و يدها في يده ، بينما هي تغمض عينيها من ألم أصابعها ، مُتحدثة من بين أسنانها :

= سيب ايدي ...

_ واسيبها ليه يا تورة هانم ؟ مش دي اللغة الي بتفهمي بيها ؟ لغة الثيران ؟

فتحت عيناها وهي تعض علي شفتيها من الألم قائلة بـ صمود :
= احترم نفسك ...

مال بجانب أذنها وهو يقول :

_ احترمي سن الي قدامك الأول واكتمي ... فاهمة ؟

كادت أن تفتح ثغرها كي ترد ، ولكنه ضغط علي أصابعها قائلًا :
_ فاهمة ؟

لم ترد وهي تتنفس بـ سرعة من الألم والغضب ، لكنه تابع :

_ اهدي يا ماريتا عشان جدتك علي الأقل ..


نجح تلك المرة بتهدئتها بـ شكل ما ، فـ استكانت إلي حد ما أو هكذا ظن ، فـ بدأ يخف الضغط عن يدها تدريجيًا ....
حتي خفه تمامًا ، وترك يدها ، لكنها لم تترك يده ، بل أمسكتها ، فـ نظر لها بـ دهشة ، فـ وجدها تستدير
وهي تطبق علي يده تعضها بـ كل قوة ، فـ أطلق صيحة اعتراض مصدومًا ، حاولت تخليص يده من يدها ، لكنها لم تتركها إلا بعدما تركت أثرًا لا يزول بسهولة تحت صدمته ، ثم تركتها فجأة ....

عبثت بـ جيب بنطالها الزيتوني وأخرجت منه محرمة ، مسحت به ثغرها ، ثم أخرجت آخر وهي تمسك يده تضعه بها وهي تُردف بـ برود ناقص اشتعال عينيها :

= إياك تهددني تاني يا كابتن ، عشان أنا مبحبش التهديد ...

ثم اتجهت إلي المقعد وجلست عليه هادئة ، بينما أشاح بـ وجهه ، وهو يمسح كفه ، هامسًا :

_ تورة ، والله تورة ، قال توتة قال ...

رفع كفه لـ ينظر ليده ، فـ لم يسره المنظر أبدًا ، فـ تابع في شتمها وهو ينظر لها بين الحين والأخر بـ قرف ، ما لبثت نظراته تلك طويلًا ، حتي تحولت إلي ابتسامة من قلبه ...........

............................................

" وجود شخص واحد يهتم لـ أمرك ، هو مبرر منطقي لأن تبقي ثابتًا رغم كل الاهتزاز حولك "
| منقول |
في اليوم التالي ....

يلملم أغراضه بـ شرود وهو يُجهز نفسه للذهاب إلي عمله ، ولكن حالة السكون التي تعتري نفسه هي ما تثير استغرابه ، شعور غريب لم يعتده يحيط به كـ هالة باعثًا في نفسه سلامًا نفسيًا لا يرغب في ذهابه عنه أبدًا ...

انتهي من رش عطره المميز ، وهو يُعطّر يديه كـ عادة لديه ويمسح بها علي لحيته وشعره ، ثم ضبط ياقة قميصه الأبيض ، واتجه نحو باب الغرفة لـ فتح الباب ...

قفزت أمامه ريحان فجأة وهي تبتسم في سرور ، وعينيها تلمعان في مغزي يعلمه ...
وكيف لا يعلم أي تفصيل صغير عنها ؟
إنها أخته ... وحيدته ... وقطعة من قلبه ....
ابتسم لها وهو يبادرها ضابطًا أزرار معصم يده :
= صباح الخير لأجمل روني في الدنيا ...

التمعت عيناها في ابتسامة طفولية ، وهي تتقدم منه خطوة ، و تتلاعب بأصابع يدها قائلة :
_ صباح النور لأجمل أبية في الدنيا ...، امم ، ممكن أطلب طلب ؟

= شاوري ...

تدللت وهي تقول عابثة بـ شعره :
_ أي حاجة ، أي حاجة ؟

= أي حاجة ، أي حاجة ...

_ امم ، ممكن توصلني معاك في طريقك ، عربيتي عطلانة ...

= بس كده ؟

_ آه ..

= لا طيبة ، افتكرتك هتستغلي الموقف ...

_ من يومي ...

ضحك وهو يعدل خُصلاته الفاتحة قائلًا :
= علي يدي ...

ابتسمت بـ مشاغبة ، وهي تفر من أمامه كي تجلب حقيبتها ، ثم اتجهت معه للسيارة بعدما قبلت أمها ، وناغشت أطلس المُتذمر .....

في حياتها البسيطة تلك ، كانت تلك جنتها الوحيدة ...
مشاغبة أخوتها ، عناق أمها ، دفء منزلها ....
كانت تلك الأشياء أفضل من أي مال ، وأي منصب ، كانت سـ تحظي به بوجود أباها .....

طريقه رحيله عنها وعن عائلتها تؤلمها ، وكأنه لم يحبهم يومًا ، لـ يستبدلهم بـ عائلة أخري ....
أيؤدي الحب دومًا إلي الكوارث ؟
أم أنها محض الصدفة ، ولا دخل للحب فـ الأمر ؟
أ نتائج الحب دومًا تكون عبثية ومؤلمة ؟ أم تخضع لـ قوانين و ضوابط ؟

أ للعقل دخلٌ في تلك المُعادلة ؟
أم أن الحب يعمي العقل عن التفكير ؟
ومـا بين التفكير والتسرع ...
ومـا بين العاطفة والفكـر ...
يتخبط العقل .... ويتوه القلب ....

............................................

" ذاك الشخص الذي يعامل الناس من خلف أسوار عالية بناها بـ نفسه كي يعزل نفسه عنهم ، هو في الحقيقة طفل صغير ، بروده واجهة ، وردوده دفاع ، فـ لا تنخدع بهم ، مجرد وردة صغيرة يمكن أن تذيب جليده ، و مُجرد رد دافئ
يخترق قلبه يجعله ينزل دفاعه "

| بقلمي |

صوت الحركة في المشفى ، أيقظها فورًا ، فـ فتحت عيناها وهي تتثآب كـ قطة كسولة ناعسة ، وتُحرك رقبتها بـ عدم استيعاب ....
وفـجأة ....
زيارة كادر المُفاجئة ، عزفهم معًا علي البيانو ، ارتباكها فور أن رأته ما أن نزعت الشريط الأسود عن عينيها ، قطع الخادمة لـ تلك اللحظة وهي تدعو كلاهما لـ مائدة الطعام ....

مرحهم معًا ، و.... زيارة والدتها ....
ثم .... سقوط جدتها أرضًا أثر تخبطات صحية عدة ، من أهمها التوتر والارهاق ....

حينها فتحت عيناها بـ سرعة والادراك يعود لـ عقلها ، ثم واستقامت من جلستها ، فـ وقع عن حجرها .... سترة ...

سترة قطنية دافئة ، مُشبعة بـ رائحة عطر ذكورية ، رائحته هو .... كادر ....
تلمست السترة بين يديها ، وهي تتحسس ملمسها الناعم ، مُدركة أنه وضع سترته لها كـ غطاء يسترها أثناء نومها ...
فـ كشف ثغرها عن ابتسامة مُشرقة تدريجيًا ....
سرعان ما قربت سترته وهي تسمح لـ رائحة عطره أن تتخلل مسام أنفها ....

فجأة ... وعت إلي ما تفعله ...
فـ استفاقت لما تفعله ، وهي تبعد السترة ناظرة حولها بـ ارتباك وهي تعبث بـ شعرها ...
ثم سرعان ما اتجهت إلي طبيب جدتها كي تسأله عن حالتها ، لكنها وجدته هناك ...
يقف مع الطبيب وهو عاقد الحاجبين ، ينظر بـ تركيز ، لـ نتائج تحاليل من الواضح أنها تخص جدتها ...
يتحاور مع الطبيب وهو يسأله عن مضاعفات العملية التي تم إجرائها لجدتها ، وعن نسبتها ...

اهتمامه ... شهامته .... اختلافه عن من حوله ...
كلها أشياء تؤثر في ركن أسود في قلبها ، يذكرها بمدي نذالة منذر معها ، وعن تشابهه مع الرجال أجمع ...
ولكنها مخطئة ...
فـ شخص آخر توًا استحق كلمة رجل التي تُقال عنه ...
شخص يجب أن يكون له نُسخ عدة في الحياة ، حتي تكون أكثر سهولة وجمالًا ....
ابتسامة تشبه ابتسامتها منذ لحظات ابتسمت علي وجهها ، وعيناها تلمعان في جمال ...
ثغرها مفتوح ، و ذهنها شارد ، وهي تحدق فيه بـ انبهار نادرًا ما يظهر علي وجهها ....
لم تكن تدرك مدي جمالها في تلك اللحظة ، بـ وجهها المحمر وثغرها المفتوح ، شعرها المشعت حولها يعطيها مظهر جنية جميلة بـ عينين رماديتين لامعتين ....

لكنها وإن لم تدرك جمالها ، فـ كادر أدركه ، وهو يلتفت بـ نظره أثناء حديثه مع الطبيب فجأة ، التقت نظراته بـ نظراتها فـ وجدها علي تلك الحال ...فـ صمت فجأة ...
و شرد بها ....
امرأة تأتي في العمر مرة واحدة ، واحدة تترك ندبًا مشوهًا ، والاخرى تترك أثرًا لامعًا منعشًا ، يكون دواء لكل دواء ...
يعالج التشوه ، ويحيي الروح من موتها ....
ولكنه أفاق علي صوت الطبيب ، فـ ابتعد بـ نظره عنها وهو يحاول الابتسام ، ولكنه فشل ...
خصوصًا ، بعدما سمع خطواتها المُقبلة ، وهي تتكلم بهدوء وتسأل عن حالة جدتها ، فـ أعاد لها الطبيب ما قال له :

_ مستقرة إلي حد ما ، الوقعة الي وقعتها كانت شديدة شوية علي الجمجمة ، وبالتالي الجرح كان عميق ، واحتجنا نقل دم ، بس الموضوع اتحل ، ودي كانت الحاجة الوحيدة الخطيرة الي كانت في الموضوع ، الباقي ، شوية إرهاق علي شوية تعب طبيعي بسبب كبر السن ، ومرضها طبعًا مسببلها وهن كبير ، وبالتالي المريضة عايزة راحة تامة وتغذية كويسة ...

تنفست ماريتا بـ عمق وهي تتنهد بـ ارتياح ، ثم هزت رأسها له شاكرة مبتسمة ، فـ كادت أن تفتح ثغرها كي تلقي التحية علي كادر ، ولكن سؤالًا عبث بـ عقلها بـ فضول ، فـ سألت :

_ موضوع نقل الدم اتحل ازاي ؟

= كادر بيه تبرع بـ نفسه ، هو مش نفس الفصيلة ، بس فصيلته بتدي لكل الفصائل ...

مميز هو إذن ...
يعطي ولا يأخذ إلا من شبيهه ...
مميز في تصرفاته ، وأدق تفاصيله ....

كانت قد نقلت نظرها إلي كادر تنظر إليه مُطولًا في انبهار يظهر للمرة الثانية في نفس اليوم ...
وتلك علامة خطيرة ....
خطيرة جدًا ، لشخص مثلها لا يعجبه العجب كما يُقال !
لم تشعر بـ استئذان الطبيب ، ولا برحيله ، و تقريبًا هو كذلك ...
لأنهما ظلا يتبادلان النظر لأكثر من الدقيقة ، حتي أردف كادر بـ مشاغبة يداري ارتباك قلبه :
_ يا تري بتفكري تعضيني فين تاني ؟

شاهد ابتسام عينيها أولًا ، ثم انفراج ثغرها في ضحكة أظهرت صفي اللؤلؤ في ثغرها وهي تشيح بـ وجهها عنه ، ثم تبدأ في التلاعب بـ ساقها وهي تحركه حركة دائرية مُغمغمة :

= أنا مش عارفة أشكرك علي ايه ولا علي ايه ...

_ متعادلين ...

رفعت عينيها وهي تقول بـ اعتراض :
= لا ، أنت ...

قاطعها قائلًا :
_ أولًا كلمتي مش معناها أني بردلك الي عملتيه أو أي حاجة تانية ، بس أي حد مكاني كان هيعمل كده ...

= مش كلهم ...

للحظة تشاركا في استرجاع ذات الذكري ، الخاصة بـ اصطدام جدتها وهروب منذر ...
فـ أردف بـ تأكيد وهو يغوص داخل عينيها :
= لا أي حد كان هيعمل كده ، لو كان في مكاني ، أي حد راجل ...

ابتسمت وهو تهز رأسها في فهم وابتسامة ، فـ مد يده لها وهو يقول بلباقة :
_ اتفضلي ، قهوة ؟

هزت رأسها في طاعة قائلة وهي تسير أمامه :
= قهوة ...

..................................

" بعضهم يعيش كـ الجمر علي الموقد ، لا الموقد ينطفئ ولا الجمر يخمد اشتعاله "
| ياسمين عادل |

يقود سيارته كـ المحموم ، يتوتر من أقل شيء ، يديه تتعرق بـ غزارة كمن مسته الحُمي ، يشعر بـ تهيج أنفاسه ، وعدم قدرته علي المُتابعة ...
من وقت استيقاظه منتفضًا علي حلم كانت جثتها تستلقي فيه بين يديه ، وهو يشعر بـ تغير كل شيء ...
تغيرت الأحاسيس ... ومعها تتغير الموازين ....
تلك الفتاة عينيها البندقية هي فخ ، إن سقطت فيه فـ لا رجعة عنه ، كلامها وتصرفاتها تجذب كـالمغناطيس ...
مُتبعة أن قانون التضاد يجلب التجاذب ، كانت تجذبه بـ أقل أفعالها وأبسطها ...
وكأنها خلقت لتكون عنائه ، لكي لا يرتاح أبدًا ....
اقترب من مدخل الجامعة وهو يتجاوز العديد من السيارات ، وما أن اقترب منه ، حتي دخلت سيارة في نفس التوقيت ،
صوت المكابح ، ترافقه الشهقات ، بسبب اصطدام مقدمة السيارتين ، ونزول كل من السائقين كي يتفقدا الأحوال ...

من ناحية عُقاب ، توترت ملامحه لوهلة ، ولكنه وضع قناع الجمود عله يفلح ، وترجل من سيارته ، يتفقد أوضاع سيارته الثمينة التي يحبها ، فـ ألقي نظرة غاضبة علي الضرر الحادث ، ثم رفع رأسه كي يعاتب السائق المقابل ، ولكنه تجمد ....

حينما رأي ريحان تنزل مهرولة وراء فاهد تسأله بـ ذعر وهي تتفقد وجهه :

_ أنت كويس ؟ فاهد ؟

وضع فاهد يده علي كتفها وهو يقول بـ طمأنينة :
= كويس يا ريحان ، مفيش حاجة ، أنت اتخبطت أو حاجة ؟

هزت ريحان رأسها وهي لا تزال مصدومة :
_ لا ، كويسة ...

هوّن فاهد عليها وهو يحتضنها مالسًا علي حجابها في رفق ، فـ أغمضت عينيها وهي تتمتم بالحمد ، استمر الحال لعدة ثواني ، ولم تتحرك ريحان ، فـ مازحها فاهد :

= ايه يا بنت ؟ عجبك حضني دلوقتي ؟

ابتسمت ريحان وهي تحرك وجهها بـ تذمر ، وهي تقول بـ خفوت :
_ خفت عليك أوي يا أبية ...

داعبها فاهد بـ مزاح :
= طبعًا يا بنتي ، وأنت تلاقي أخ فين تاني بعنين زرقا ؟

زجرته ريحان وهي تقول بـ يأس :
_ مفيش فايدة ، هتفضل طول عمرك مغرور ...

مسح فاهد وهميًا عنه قائلًا :
= يزيد فضلك يا حبيبي ..

ضحكت ريحان وهي تدفعه بـ تذمر ، فـ عاتبها فاهد :
_ بنت ، بنت ، أحنا قدام الناس ، في البيت ابقي اضربيني براحتك ...

للمرة الثانية ، عاد وهج البندق لـ يلمع داخل عينيها ، لـ يزيد من غيظ الماكث أمامها ، و يجدها تحادث رجل بـ ذلك القرب ، أليست هي من قالت :
_ مش بقعد مع شباب ...

لا تجلس مع الذكور ، ولكن تقف معهم ؟ تحتضنهم ؟ ويملسون علي وجهها ؟
لم يدرك أن التفحم والدخان يتصاعد من رأسه مع تفاقم تفكيره ، وهو يجدها تبتسم بتلك البساطة والجمال مع ذاك الرجل ، بحقكم ، إنها تتجهم فور رؤيته !
وتنعته بـالطاووس !

بالحديث عن رد فعلها عن رؤيته ، فـ هي قد لمحته بالفعل ، وبنظرة واحدة لـ مكان وقوفه ، عرفت أنه الشريك الأخر في الحادث ....
تجهم وجهها ، وطارت الابتسامة ، فـ لاحظها فاهد علي الفور ، وانتقلت نظراته إلي عُقاب الواقف أمامه ، فـ تقدم فاهد وهو يضع يده علي كتف عُقاب قائلًا :
_ أنت كويس يا بطل ؟

زاد غيظه من طريقة كلامه ، أهو طفل ؟ ، لكنه هز رأسه بـ تكبر وهو يشير برأسه أنه بخير ، ثم نقل نظره بينه وبين ريحان وهو يقول :

= هو حضرتك مأخدتش بالك من أني داخل ؟

_ بغض النظر عن أني الي داخل الأول ، بس هتنازل وأقلك أني أنا الي مأخدتش بالي يا سيدي ...

ارتفع حاجبا عُقاب وهو يقول من بين أسنانه :
= ليه ؟ كنت أنا غلطان عشان تتنازل أو حاجة ؟

_ هو علي الغلط ، فـ آه ، أنت غلطان ، بس مش مهم ....

فـ كابر عُقاب علي الرغم من إقراره بـ خطئه بينه وبين نفسه ، ولكنه أبي أن يقر أمامه ، أو إن صح القول أمامهما قائلًا بـ صوت عالٍ :
= أنا مش غلطان !


من بعيد ، كان وائل يأتي باهت الوجه ، ميت الروح ، اليوم أتي رغمًا عن أنفه بسبب نتائج الامتحان النظري ، وتوزيعات الامتحان العملي ، وبالتالي كان يشعر بـ الاختناق مع كل خطوة يخطوها ، وجد الزحام حول المدخل ، فـ اقترب ، وأنفاسه تتعالي شيئًا فـ شيئًا ، وهو يري ، ريحان يقف بجانبها أخوها ، أخته ... وأخوه ...

كان فاهد بارع في سيطرته علي أعصابه لأعلي درجة ، فـ سنين من التعليم في الجامعة ، ثم العمل كـ ضابط مُحنك ، منحته بعضًا من الصبر والليونة في التعامل مع الموقف ...
فـ رد علي عُقاب هادئًا :
_ إنكارك لـ غلطك ميمنعش من أنك غلطان ...

رد عُقاب هازئًا :
= هو أنت تبعها ولا ايه ؟ أنتو الاتنين بتعرفوا تتفلسفوا ...

رد فاهد عاقدًا حاجبيه مُضيقًا عينيه :
_ هي مين دي ؟

= الهانم الي معاك ....

بـ أسلوب عصبي وأنفاس لاهثة ، أشار عُقاب بـ وقاحة تجاه ريحان فـ عقدت حاجبيها في استغراب ، مما جعل ناقوس الخطر يدق في ذهن فاهد ، وهو يقول بـ صوت هادئ يحمل بين حياته حذرًا تجاه ذاك الشخص :

_ ايـه علاقتها بـ كلامي ، بكلمك بيني وبينك ، ايه الي دخلها ؟
= مفيش ، مش مجرد أنكم بتقولوا كلام وبترفعوا شعارات فـ الرايح والجاي ...

_ أنت مالك بيها ، كلمني أنا ...

مازال صوته هادئًا ، وإن حمل بعض الصرامة ، فـ رد عُقاب مُنفعلًا :

= وأنت بتحامي عنها ليه ؟! ها ؟

_ وأنت مالك ؟

= هو ايه أنت مالك ، أنت مالك ، في ايه ؟ هـا ؟

_ عشان سيادتك بتتكلم في حوار ميخصكش ، أما بقولك أنه بسبب دخلتك دي ، العربيات باظت ، دخلت في حوار تاني غير ...

= وهو الحوار ميخصنيش ؟

طريقته المُستفزة بدأت تثير أعصاب فاهد الهادئ ، وتعديه بالكلام عن أخته يُحرك وحشًا ما بداخله ، لكنه أخفي كل ذلك بـ مهارة قائلًا :

_ آه ، الحوار ميخصكش ، يلا اسحب عربيتك ...

= ميخصنيش ؟ واسحب عربيتي ؟ طب مش ساحب !

_ هو عند ؟ بالعقل كده ، هتدخل ازاي من غير ما واحد فينا يسحب عربيته ؟

أشاح عُقاب بـ رأسه هازئًا :
= بالعقل ؟ مش بقولك أنت تبعها ...

_ يا بني آدم ، متدخلش الأعراض في الكلام ، استرجل وبطل الطريقة دي !

فقد عُقاب أعصابه ، فـ اقترب من فاهد وهو يمسك ياقة قميصه صائحًا بـ عصبية :

= ايه استرجل دي ؟ هـا ؟ شايفني ست ولا ايه ؟ أنت متعرفش أنا مين ولا ايـه ؟ أنا عُقاب دويدار ...!

ابتسم فاهد بلا تعبير وهو يقول بـ بساطة وبصوت جلجل أنحاء الجامعة :
_ وأنا المُقدم فاهد عمرو الجبالي !

ثم بـ كل بساطة ، ضرب جبهة عُقاب بـ جبهته وهو يُبعده عنه ، فـ علت الشهقات ، وابتعد عُقاب عنه ، وهو يري ريحان تمسك فاهد وتهدئه ، لكن فاهد تابع بـ هدوء :

_ أقدر دلوقتي أعملك محضر مش هاخد فيه دقيقتين واسجنك ، بس معلش شاب طايش بردو وليه عذره ، و عشان كده ، المرة الجاية الي هتجيب سيرة أختي فيها علي لسانك ، هقطعهولك ، واعلقه هنا علي باب الجامعة عشان يكون عبرة لـ غيره ، يوم ما حد يفكر ويتجرأ يقرب منها بـ مسافة تقل عن المترين .....

لم يستوعب عُقاب أي كلمة نطق بها فاهد غير كلمة " أختي " ، فـ تعثر في كلامه وهو يسأله :
_ هي أختك ؟

عقد فاهد حاجبيه وقد بدأ هذا الشاب يضايقه ، فـ مال عليه واضعًا يده في خصره :
_ أنت شارب حاجة يلا ؟ بقولك اسمي فاهد عمرو الجبالي ؟ أنت سكران ؟

هز عُقاب رأسه وهو ينظر إليهما معًا ، وبالفعل لاحظ الشبه الواضح بينهم ، فـ بخلاف العينين ، كانت الملامح طبق الأصل تمامًا ....
كيف لم ينتبه لذلك ؟
استقام عُقاب وهو ينقل أنظاره بينهما ، وفي مرة من المرات ، رفعت هي عينيها تجاهه ....
هـا هو وهج البندق ....
غيم العسل داخل عينيها منذرًا بـ هبوب عواصف غير محمودة ، وهي تحدق إليه في بغض ، ثم أشاحت بـ بصرها عنه....
لكنه لم يسحب بصره عنها ...

ظل يتابع حركات وجهها وهي تكلم أخيها بـ هدوء ناسب حالة الوقار المُصاحبة لدخولها ، فـ ابتسم بجانب ثغره ، وهو مازال يشعر بالألم في جبهته ، وكأن ثورًا نطحه وليس إنسانًا ....
استدار فاهد عن أخته في حركة مُباغتة ، فـ وجد عُقاب ينظر لأخته مُبتسمًا ، فـ تقدم منه وهو يقول من بين أسنانه :
_ بص علي الي يخصك يا حلو ، عشان متنورش التخشيبة عندي قريب .....

ابتسم له عُقاب بـ استفزاز ثم تركه ، و توجه لـ سيارته وهو يسحب سيارته مُنتظرًا تقدم فاهد ، فـ أمسكت ريحان بـ كف فاهد وهي تقول له :
_ ارجع أنت يا أبية وأنا هكمل ....

= لحد جوه يا ريحان ، ومن غير نقاش إذا سمحت ، الولد مُستفز لوحده ، يلا اركبي ....

وبالفعل أصغت له ، وهي تركب مكانها ، بينما هو يعود للخلف بـ تركيز ، ثم قال لـ ريحان :
_ مش هو ده الولد الي اتخانق معاكِ قبل كده ؟ ربطت صح أنا كده ؟

= صح ...

وبالفعل انسحب فاهد للخلف ، وهو يشير لـ عُقاب أن يدخل أولًا ، رافضًا الدخول ، ثم تابع :
_ الولد فظيع فعلًا ....

= فعلًا ....

بعدما قاد كل من عُقاب وفاهد سيارته للداخل ، قلت الجموع المُشاهدة ، ثم افترق البعض ، إلا من شخص واحد ، استند بـ ظهره إلي إحدي الأشجار مُغمضًا عينيه بـ إرهاق تام .....

.....................................

" وكأنك تشم رائحة المكان ، رائحة لا يعرفها إلا من عشق صوت الأوراق "
| منقول |

تجلس في المكتبة في إحدي الأركان ، تحديدًا في المكان الذي تقابلت فيه مع بيجاد أول مرة ، تشعر أنه قد مر الكثير والكثير علي ذاك اليوم ....
لأنها ما عادت هي ...
ولأنه ما عاد غريبًا ....
بات قريبًا منها جدًا ، يحادثها ويخفف عنها ....
يساندها ويساعدها ، يعلمها ويوجهها ....

ولذا تطورت علاقتهم جدًا منذ ذاك اليوم ، بات شخصًا أساسيًا في حياتها الصغيرة ......

كانت محمرة الوجه لسبب ما ، وهي تُصادف في الرواية التي تقرأها مشهد فائق الرومانسية بين البطل والبطلة ....

لذا أجفلت هي عندما وجدت أحدًا يبعثر شعرها في مداعبة ، ويدور حول الطاولة لـ يجلس مقابلها ....
إنه هو ...
تستطيع تمييزه ولو من بين آلاف الرجال ....
فـ ملامحه مألوفة لـ قلبها وحضوره معروف لـ دقاته ، بينما تحفظ هي رائحة عطره عن ظهر قلب ....
جلس أمامها وعيناه تبتسمان لها ، كـ أول شيء جميل في الصباح ، وكأن غاباته المُظلمة كانت تحتاج سماء بلون أفتح ، لتنثر جمالًا فوق عينيه .....

سألها بـ استغراب وهو يطالعها :
_ وشك أحمر ليه يا سما ؟

تحت ظِـلال الهوي Where stories live. Discover now